آخر الأخبار

أضف النص الخاص بالعنوان هنا

الدار البيضاء.. المدينة المُفلسة ثقافيا

الدار البيضاء.. المدينة المُفلسة ثقافيا

عبد اللطيف سرحان - الجديدة

حسن عين الحياة (إعلامي وفنان)

عندما يقفز اسم مدينة الدار البيضاء إلى سطح التداول، يتبادر إلى أذهان الناس، تلقائيا، صخبها العمراني وأبراجها الزجاجية التي تكاد تناطح السحاب، وأيضا شوارعها المكتظة، فضلا عن تدفق المال ووفرة الأشغال والأعمال. غير أن هذه المدينة العملاقة التي تعد القلب الاقتصادي للمغرب، والتي تزدهر على صعيد التجارة والاستثمار والعمران تبدو مفلسة ثقافيا، وكأن روحها تُسلب شيئا فشيئا، أو لعلها تتحجر بتحجر عقليات مسؤوليها اللاهثة خلف الإسمنت.. ولهذا أتساءل مثل عديد الفنانين والمثقفين، هل يمكن لمدينة بهذا الحجم أن تستمر في التقدم دون أن تكون الثقافة حجر الزاوية في مسارها التنموي؟

في الماضي القريب، كانت الدار البيضاء منارة للإبداع ومركزا للإشعاع الفني والثقافي. ذلك أنها شهدت عصرا ذهبيا للمسرح والسينما والموسيقى.. عروض مسرحية هنا، وطوابير تنتظر دورها لمشاهدة هذا العرض هناك، وبقدر ما كانت هذه العروض تنعش المسارح ودور الشباب، ولو على قلتها، سطعت أسماء كبيرة في رحابها، شقت فيما بعد طريقها إلى السينما والإذاعة والتلفزيون.. الكل في هذه المدينة كان يتنفس من خلال رئة الثقافة حاجته ومبتغاه. لكن اليوم تغير الزمن وأصبحت الثقافة آخر اهتمامات القائمين على تدبير شؤون المدينة. إذ بقدر ما ترتفع الأبراج تنخفض المؤشرات الثقافية، حتى صارت هذه المدينة المليونية التي تزداد سكانا عاما بعد عام تفتقر إلى فضاءات ثقافية وتربوية تستجيب لحاجيات مواطنيها.

ولِنُقرِّب الصورة أكثر، ولو على قتامتها، يمكن أن نلق نظرة على الواقع، بالمعطيات والأرقام.. والأرقام لا تكذب في جهة الدار البيضاء سطات التي تضم أكبر تجمع سكاني في المغرب. في هذه الجهة، يتجاوز عدد المرافق الثقافية والتربوية 218 مرفقا، منها 98 فقط في الدار البيضاء.. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الرقم مبهرا ومبهجا ومطمئنا في آن، لكنه سرعان ما يفقد بريقه عندما ندقق في تفاصيله أكثر.
تصوروا أن من ضمن 98 مرفقا ثقافيا وتربويا في كازابلانكا، هناك 10 مرافق في طور الإصلاح، و9 تحتاج إلى الإصلاح، و30 مرفقا يعاني من نقص في الأطر (بحال إلى زعما ماعندناش الأطر في هاذ لبلاد)، و21 مرفقا يعاني من نقص في التجهيزات، ومرفق واحد مستعمل من قبل قوات الأمن، و”وزيد عليهم نعاماااس” مرفق تحول إلى مركز للتلقيح، وواحد جاهز لكنه يفتقر للحاجيات الأساسية، و4 مرافق مغلقة لغياب المديرين، ومرفق غير جاهز، وأضف إلى كل هذه الأرقام الصادمة، قاعة مهترئة، وقاعة في طور البناء، وقاعة قريبة من التدشين، وقاعة في طور البناء بنسبة 63 في المائة، واتفاقية في طور التوقيع، ودراسة جيوتقنية تمت (ربما لبناء شي لعيبة)، وفضاء يعترضه مشكل عقاري، وفضاء آخر ينتظر تزويده بالماء والكهرباء…

للأسف إن هذه الأرقام الصادمة مُعممة من قبل وزارة الشباب والثقافة والتواصل، لكن لا أحد انتبه إليها أو أعارها أي اهتمام. فقط هناك عين فاحصة ومشخصة للوضع التقطتها، وارتأت مشاركتها مع عموم الفنانين والمبدعين والمثقفين وفعاليات المجتمع المدني، وهي عين المناضل والخبير المسرحي السي الحسن النفالي، بحيث جاءت على لسانه خلال مداخلته القيمة الغنية بالمعطيات والأرقام في اللقاء الذي نظمه “منتدى المشاركة المواطنة الثقافية المحلية” قبل أيام بقاعة مجلس مقاطعة سيدي عثمان، عرفانا للمرحوم الاخ عبد الحق المبشور، رائد المواطنة الثقافية المحلية.
98 فضاء ثقافيا وتربويا في الدارالبيضاء.. رقم مبهر فعلا، لكنه يعني أن 80 فضاء منه يعاني من اختلالات عميقة، بعض هذه الفضاءات مغلقة، وأخرى في حاجة للإصلاح، أو “مسلفينها لشي جهة”، أو ماتزال عبارة عن مشروع على الورق. وبالتالي، إن 18 فضاءً فقط هي الجاهزة لاحتضان نشاط ثقافي أو فني أو تربوي في مدينة تقترب ديموغرافيا من 4 ملايين نسمة.. و”إلى قسمتو هاذ 4 ملايين على 18 مرفقا، شوفو شحال غتخرج”.. أكثر من 200 ألف نسمة على مرفق واحد.


إن هذه الأرقام التي تخص الدارالبيضاء وحدها، رغم وجود أرقام أخرى تخص عديد الجهات والمدن، تعكس صورة قاتمة لمشهد ثقافي معطوب، حيث يغيب التخطيط الجاد وتتحول المشاريع إلى مجرد بنايات “كيسوط فيها البرد”، وكأن المدينة تخلت عن إرثها الثقافي. وبالتالي، يبدو أن صناع القرار في البيضاء يرون في الثقافة عبئا لا حاجة إليه في مدينة يسود فيها منطق الربح والخسارة..

أمام هذه الأرقام الصادمة، تحتاج الدارالبيضاء المقبلة على احتضان مونديال 2030 إلى ثورة ثقافية، تحركها إرادة سياسية، من شأنها أن ترمم أعطاب هذه الفضاءات، حتى تكون قادرة “من هنا لخمسنين” أن تخلق على الأقل صناعة ثقافية يمكن ترويجها للزوار القادمين من مختلف بلدان العالم. إذ في ظل هذا الواقع المريع، لا يمكن للمدينة أن تتقدم دون أن يكون للثقافة مكانة ضمن أولوياتها. والثقافة هي صورتنا التي ستظل عالقة عند “البراني”.

إن الأرقام التي كشف عنها السي النفالي ليست مجرد أرقام محنطة في رفوف الوزارة الوصية، بل هي شهادة دامغة على إهمال طويل الأمد لقطاع لا يمكن أن يتقدم دون فضاءات جاهزة، تشكل أرضية حاضنة لمشاريعها الواعدة. وهنا ينبغي التأكيد أن يد الوزارة وحدها لا تصفق، إذ يتطلب الأمر تدخلا عاجلا للمجالس المنتخبة أيضا، خاصة وأن الدار البيضاء كنموذج معني بهذه الأرقام، تستحق أكثر من مجرد مراكز تجارية وبنايات شاهقة ومصانع… إنها بحاجة إلى روح، وإلى مسارح تعج بالحياة، وإلى دور سينما حقيقية تستعيد أمجادها، وإلى مكتبات تستقطب القراء وتعيد الاعتبار إلى الكتاب، وإلى دور الشباب التي لعبت دور صمام أمان ضد كل أشكال العنف والتطرف، وأيضا إلى فضاءات تحتضن الفن بمختلف إشكاله، وإلا فإن هذه المدينة ستظل مجرد غابة أسمنتية بلا ذاكرة ولا روح، “ودوزو بخير”.

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *