في هذا العالم الذي يتسارع بوتيرة مرهقة، ويضيق فيه وقت الإصغاء الحقيقي، يظل المسرح واحدًا من الفنون القليلة القادرة على خلق مساحة مواجهة صادقة بين الإنسان وذاته، وبين الفرد والمجتمع. تلك اللحظة التي تتكوّن على الخشبة بين الممثل والجمهور، ليست مجرد ترفيه، بل فعل نفسي عميق يحمل طاقة التحوّل.
من منظور علم النفس، تتضح في المسرح ملامح جلسة جماعية مفتوحة: كل عرض هو بمثابة كشف داخلي، وكل شخصية تمثل جزءًا من النفس البشرية، بكل صراعاتها وتناقضاتها ومكبوتاتها. ليس الممثل مجرد ناقل للنص، بل كائن يستدعي الحالات الوجدانية ويجسدها، مما يمنحه قدرة على التأثير، لا تختلف كثيرًا عن أثر العلاج النفسي بالتقمص أو التفريغ الانفعالي.
في هذا الإطار، يبدو طرح المسرحي الفرنسي أنطونان أرتو في “مسرح القسوة” بالغ الأهمية. لقد نادى أرتو بمسرح لا يهادن، لا يسعى لطمأنة المتفرج، بل لخلخلته، لفتح أبواب اللاوعي عبر الجسد، الصوت، الإيماءة، والإيقاع. أراد مسرحًا لا يخاطب العقل فقط، بل يستثير الحواس والانفعالات، ويدفع الجمهور إلى مواجهة داخلية مع ما يُخفيه ولا يجرؤ على البوح به.
ورغم هذا الغنى التعبيري والنفسي، يعاني المسرح العربي من تحديات متراكمة؛ تتراوح بين التهميش المؤسسي والنظرة المجتمعية التي ما زالت تحصره في خانة الترفيه أو النخبوية. لكن التجارب الحديثة، خاصة المسرح الشبابي، أثبتت أن الخشبة ما زالت قادرة على تجديد نفسها، وعلى أن تكون منبرًا حيويًا للوعي، خاصة إذا ما تم ربطها بقضايا الناس وهمومهم اليومية.
اليوم، نحن بحاجة إلى استعادة دور المسرح بوصفه فعلاً اجتماعيًا ونفسيًا، لا مجرد منتج فني. مسرح يُنصت فيه الناس لأنفسهم من خلال الآخرين، ويعيد للغة الجسد قيمتها في زمن الكلمات المستهلكة.
إن المسرح، حين يُنجز بصدق ووعي، لا يُقدّم أجوبة جاهزة، بل يُثير الأسئلة. وهو بذلك يُشبه جلسة التحليل النفسي: مؤلمة أحيانًا، صادمة أحيانًا، لكنها دائمًا ضرورية من أجل التقدّم خطوة نحو الذات.